مقالاتمواضيع العدد ١٧

روزيتا .. مهمة مستحيلة

روزيتا .. مهمة مستحيلة

في 12 نوفمبر من العام الماضي هبط المسبار الفضائي فيلة على مذنب تشيريموف جيراسيمنكو Churyumov-Gerasimenko على بعد أكثر من 600 مليون كيلو متر، صانعة انجاز جديد للبشرية، وأكبر انجاز لوكالة الفضاء الأوروبية، فلم يسبق لأحد من قبل أن استطاع الهبوط على مذنب وجمع بيانات عن سطحه، وهو أحد أهم انجازات الرحلة، ولا أخفي سعادتي البالغة والتي قد تضاهي سعادة القائمين على العمل، فتلك المركبة التي حملت هذا المسبار مسماه على اسم بلدتي رشيد Rosetta وذلك لأن العلماء اعتقدوا أن هذه المركبة قد تكون لها القدرة على فك أسرار نشأة الحياة في المجموعة الشمسية كما كان لحجر رشيد الدور الأساسي في فك رموز الحضارة الفرعونية القديمة، كما أن المركبة تحمل مسبارًا يسمى فيلة Philae تيمنًا بمسلة وجدت في معبد فيلة الفرعوني بأسوان والذي ساهم في فك رموز الحضارة الفرعونية مع حجر رشيد، كما ساهم بعض علماء مصر في الإعداد لهذه المهمة منهم العلامة الشاب الدكتور عصام حجي.

تعد هذه المهمة تحد بالغ لوكالة الفضاء الأوروبية ESA لإثبات تواجدها على الساحة العالمية وقدرتها على المنافسة مع نظريتها الأمريكية ناسا، وسنستعرض في هذا المقال تلك الرحلة المثيرة وما حققته من انجازات يضاف لرصيد البشرية في سبر غور الفضاء.

اعلانات جوجل

إن الهدف من هذه المركبة أثناء إنشاءها هو ملاحقة مذنب والهبوط على سطحه، علي بعد ملايين الكيلومترات وهو ليس بالمهمة السهلة بل أصعب كثيرًا من مهمة الهبوط على القمر، وذلك لعدة عوامل من أهمها المناورات المعقدة التي قامت بها المركبة على مدى عشر سنوات والتي صعبت من المهمة، وضعف جاذبية المذنب، بالإضافة إلى دخول المركبة في سبات لثلاث سنوات، والمصير المجهول الذي ينتظرها عند لقاء المذنب، فشكل المذنب وطبيعة سطحه وخواصه كانت مجهولة لعلماء وكالة الفضاء الأوروبية، أيضًا بعد المسافة بينها وبين الأرض يضاعف من هامش الخطأ في الرحلة، والخوف من ضياع ثلاثون عامًا من التخطيط و1.7 مليار دولار، وسمعة فريق من أفضل علماء الفضاء، ويقدر علماء وكالة ايزا الفضائية أن تجيب هذه المركبة عن عدة تساؤلات من أهمها: مما

روزيتا .. مهمة مستحيلة
تصنع المذنبات؟ ظروف نشأة النظام الشمسي، هل تحتوي تلك المذنبات على عناصر أساسية للحياة؟ فتلك المذنبات لم تتغير كثيرًا منذ نشأة المجموعة الشمسية وبالتالي فإن الكشف عن قرب عن تكوين وتركيب المذنبات يعطينا فكرة عما كانت عليه المجموعة الشمسية لدى نشأتها.

لم يكن طريق الرحلة الفضائية مفروشًا بالورود، أو ضربة حظ، فعلى العكس تمامًا عانت الرحلة مشاكل وعقبات حتى قبل انطلاقها، فقد واجه برنامج الفضاء الصاروخي آريان سلسلة من الأخطاء أدت إلى تأخير إطلاق المركبة أكثر من عام، ليتم إطلاقها في مارس 2004 وهذا يعني أن الهدف الأساسي لروزيتا لن تستطيع اللحاق به، لذا قام العلماء بالبحث عن مذنب جديد تهبط عليه روزيتا، وكان يجب أن يكون المذنب كبير كفاية للهبوط عليه، وقريب إلى حد ما حتى تستطيع الوصول إليه والتواصل مع الأرض، وقد وقع الاختيار على مذنب تشيريموف، لأن حجمه كبير كفاية بعرض أربعة كيلو مترات، وضارب في القدم منذ ولادة النظام الشمسي، وعلى الرغم من ذلك ظهرت مشكلة جديدة وهي أن المذنب كان علي حدود أقصى مسافة تستطيع المركبة الوصول إليها، حيث يتطلب للمركبة أن تسافر حوالي 800 مليون كيلو متر وهي أبعد من أي مسافة استطاعت مركبة فضائية معتمدة على الطاقة الشمسية أن تسافرها من قبل، وعلى هذا البعد لن تستطيع ألواحها الشمسية أن تزود المركبة بالطاقة، حيث تصل كثافة الضوء عند هذا البعد الهائل إلى 4% فقط مما نحصل عليه على كوكب الأرض، لذا كان الحل الوحيد الذي لم يجرب من قبل هو إغلاق الأنظمة الالكترونية للمركبة بما فيها نظام الملاحة والتوجيه الذي يبقى المركبة متوجهة نحو هدفها وهو أكثر أنظمة المركبة استهلاكًا للطاقة، وقد عارض الكثير من العلماء فكرة وضع المركبة في وضع السبات، لكنهم في النهاية لم يكن لديهم أي خيار آخر لحفظ الطاقة، وقد أدرك العلماء أن غلق نظام الملاحة من شأنه أن يترك المركبة عرضه لأي انحراف في المسار، أو انحراف في زاوية توجهها نحو الشمس وهذا يعني أن المركبة قد لا تستطيع الحصول على الطاقة من الألواح الشمسية اللازمة لتدفئة المركبة حتى لا تصاب أجهزتها بالتجمد، خاصة أنابيب الوقود، لذا حل المهندسون هذه المعضلة بأن سمحوا للمركبة بالدوران حول محورها وبذلك تظل ألواحها الشمسية متوجهة نحو الشمس، وما أن نفذوا هذه الفكرة قاموا بوضع المركبة في وضع السبات وتركت لتسبح في الفضاء نحو المجهول.

إن المهمة الأساسية لروزيتا أن تصل إلى المذنب، ثم إرسال مسبارها فيلة للهبوط على سطح المذنب، وهو ليس بالأمر الهين، حيث يتحرك المذنب بسرعة 65 ألف كيلو متر في الساعة، وبالتالي فإن الطيران المباشر نحو المذنب يعنى الاصطدام المباشر معه بمجموع سرعته وسرعة المركبة البالغة نفس القيمة تقريبًا، الأمر الذي يحول المركبة والمسبار معًا إلى فتات ويقتل المهمة، لذا كان يجب على المركبة أن تطير وتلحق بالمذنب بشكل جانبي بنفس سرعته أي تسير معه جانبًا إلى جنب، لذا كان على المركبة تنفيذ عدة مناورات معقدة لتوجيهها بالشكل الصحيح وبالسرعة المطلوبة نحو المذنب، لأنها لم تكن تملك السرعة الكافية بعد إطلاقها من الأرض للانطلاق نحو المذنب ولقاءه، تسمى تلك المناورات مقلاع الجاذبية، كانت المحاولة الأولى حول الأرض، حيث لدى اقتراب روزيتا من الأرض على بعد معين تقوم قوى الجاذبية الأرضية بجذب روزيتا نحوها بقوة، الأمر الذي يترتب عليه زيادة سرعة طيران المركبة في الفضاء حول الأرض إلى حوالي 100 ألف كيلو متر في الساعة، لتنطلق في الفضاء بسرعة أعلى ومسار جديد، حيث تقوم قوى الجاذبية الأرضية أثناء جذبها للمركبة بتحويل مسارها بالقرب من الأرض إلى مسار منحني وبالتالي توجيهها إلى اتجاه جديد تمامًا، ولكن يكون محسوبًا بدقه لتتوجه نحو هدفها بشكل سليم لا مبتعدة عنه، تلى بعد ذلك ثلاث مناورات إضافية، مرتان حول الأرض، ومرة أخرى حول المريخ وفي عام 2011 كانت المركبة في طريقها نحو المذنب بنفس سرعة تحليقه في الفضاء، وبذلك لم يكن لدى فريق العمل في الوكالة الأوروبية مهمة أخرى لروزيتا سوى إدخالها في سبات لثلاث سنوات.

اعلانات جوجل

في 20 يناير من عام 2014 كان موعد استيقاظ روزيتا، حيث استقبلت آخر إشارة من روزيتا في 8 يونيو 2011 علي بعد 548 مليون كيلو متر من الأرض ، وباستخدام البيانات تنبأ الفلكيون بوكالة الفضاء الأوروبية أن روزيتا ستطير إلى مسافة 724 مليون كيلو متر وهي في وضع السبات حتى تقترب من كوكب المشترى، وقد تم برمجة المركبة لتطلق إشارات كهرومغناطيسية نحو كوكب الأرض بعد استيقاظها من وضع السبات، وقد تجمعت وكالات الأنباء في صالة التحكم بالمركبة لتصوير حدث استيقاظ المركبة، وبعد مرور أكثر من ثماني ساعات على الميعاد المترقب، وبعد معاناة كبيرة للعلماء والمهندسين، أخيرًا استقبلت إشارة المركبة روزيتا بواسطة الهوائيات اللاسلكية الضخمة في كاليفورنيا واستراليا الموجهة نحو النقطة المتوقع أن تصل إليها المركبة في هذا التوقيت.

إن قدرة روزيتا على الاستيقاظ من السبات وبث إشارات لاسلكية نحو الأرض معجزة هندسية وعلمية كبيرة، وطفرة على طريق المركبات الفضائية، إن توقف نظام الملاحة للمركبة لثلاث سنوات، بالإضافة إلى دورانها حول محورها، عقبة كبيرة في طريق الاتصال بالمركبة مرة أخرى فقد تستيقظ المركبة ولا تعلم أين هي، وقد يكون الهوائي الخاص بها غير موجه للأرض مما يجعل إعادة الاتصال بالمركبة مرة أخرى دربًا من المستحيل، لذا كان يجب على روزيتا أولًا أن تعلم أين هي في هذا الفضاء الشاسع وأين هي الأرض، ومن أجل ذلك زودت المركبة بكاميرات خاصة تسمى متعقبات النجوم Stars Trackers حيث تقوم بأخذ صورة للنجوم من حولها ومقارنتها مع البيانات الخاصة بالنجوم والمخزنة بذاكرتها، ومن خلال ذلك تستطيع أن تكتشف أين هي في السماء وأين كوكب الأرض، ومن ثم تتوجه نحو الأرض وتطلق نبضاتها الكهرومغناطيسية لتقول لنا ( أنا هنا ).

بعد استيقاظها من سباتها بدأت مهمة روزيتا الأساسية وهي البحث عن المذنب في الفضاء واللحاق به، لذا بدأت كاميرات روزيتا تفحص السماء في طريقها، حتى التقطت نقطة صغيرة على بعد مليون وتسعمائة وثلاثين كيلو مترًا منها، كانت هذه النقطة هي هدفها المنشود مذنب تشريموف جراسيمنكو، في هذه الأثناء بدأ علماء الوكالة الأوروبية تصوير هذا المذنب بواسطة كاميرات روزيتا في محاولة منهم لفهم طبيعة هذا المذنب وجاذبيته ونوعية صخوره والغازات والجليد على سطحه وذلك قبل اللقاء به، ولكن بعد فترة من التحليل ظهرت لديهم مشكلة، حيث لاحظ العلماء في الصور المأخوذة بواسطة كاميرات المركبة أن المذنب بدأ نشطًا وهذا يعنى أن المذنب بدأ إطلاق الأبخرة والغازات إلى الفضاء ُمشكلًة غلافًا رقيقًا حوله، ويعد هذا الأمر مستغربًا فلم يكن يعرف عن المذنبات أنها تنشط مبكرًا على هذه المسافة البعيدة من الشمس.

المعروف عن المذنبات أنها تكون عبارة عن قطع صلبة من الصخور والجليد خارج نظامنا الشمسي، أو في أطرافه البعيدة عن الشمس، وعند اقتراب المذنب من الشمس تبدأ درجة حرارته في الارتفاع فيبدأ الجليد على سطحه في التسامي مطلقًا أبخرة وغازات تشكل غلاف المذنب أو ما يعرف بالذيل، وهذا من شأنه أن يعطل ويعرقل المهمة، فالغازات المنطلقة منه تنطلق بسرعة تصل إلى 800 متر في الثانية، لذا فإذا دخلت روزيتا بتلك السرعة العالية هذا الغلاف النشط فإنها قد تبطئ من سرعتها أو تنحرف عن مسارها بسبب الطول الاستثنائي لخلاياها الشمسية، وكلما اقترب المذنب من الشمس أكثر كلما أطلق غازات أكثر وضاعف من صعوبة المهمة، لذا كان على فريق العمل انجاز المهمة بشكل أسرع، فلم يكن لديهم خيار سوى زيادة سرعة المركبة للحاق بالمذنب بشكل أسرع، وذلك بتشغيل محركات المركبة لأكثر من سبع ساعات في واحدة من أطول عمليات الاحتراق لمركبة في الفضاء.

أثناء تحليق روزيتا نحو المذنب بعد زيادة سرعتها وصلت إلى فريق العمل أنباء سارة، فالصور التي التقطتها روزيتا مؤخرًا توضح أن نشاط المذنب قد تراجع بشكل كبير، وبعد تبدد ذيل المذنب في الفضاء بدأت الكاميرا الرئيسية اوزايرس في المركبة في تفحص شكل رأس المذنب، حتى وصلت إليه في أغسطس عام 2014 وطارت معه في نفس المدار حول الشمس على بعد 100 كيلو متر منه فقط.

اعلانات جوجل
روزيتا .. مهمة مستحيلة
صورة ملتقطة لنواة المذنب بواسطة كاميرا روزيتا

بدا هذا المذنب غريبًا في كل شيء، فهو يشبه كرتان ملتحمتان ببعضهما البعض، تفصلهما ما يشبه رقبة صغيرة، كما يحتوى على براكين وتضاريس وعرة جدًا، فالصخور على سطحه ضخمة للغاية الواحدة منها بحجم منزل، فعلى حد تعبير أحد أعضاء الفريق أن هذا المذنب يمتلك كل شيء يمكن أن تعتبره غريبًا، ووسط كل هذه التضاريس الوعرة يجب أن تبحث روزيتا لها عن موقع آمن للهبوط، لذا كان على المركبة أن تقترب أكثر فأكثر من المذنب حتى أصبحت على بعد ثلاثين كيلو مترًا فقط منه، وعلى هذه المسافة القريبة أي خطأ لفريق طيران المركبة ولو بسيط يكفي أن ينهي المهمة بكارثة.

إن الهبوط على سطح هذا المذنب ليس كأي عملية هبوط قام بها الإنسان من قبل، وتختلف كليًا عن الهبوط على سطح القمر أو الكواكب الأخرى، فجاذبية هذا المذنب أضعف بمائة ألف مرة من جاذبية الأرض، لذا لو تخيلت أنك موجود الآن على سطح المذنب، فإن أي قفزة ولو بسيطة تقوم بها على سطح المذنب تكون كافية للانطلاق نحو الفضاء، لذا كان يجب على روزيتا الاقتراب لمسافة عدة كيلومترات فقط من المذنب لتلقى بمسبارها فيلة بسرعة عدة سنتيمترات في الثانية وهي أقل بكثير من سرعة سير الإنسان، بينما تقوم جاذبية المذنب بسحب المسبار رويدًا رويدًا نحوه، ولكن حتى مع سرعة الهبوط البطيئة تلك فإن ارتداد المسبار عن سطح المذنب نتيجة الهبوط عليه يشكل خطرًا لعدم استقراره على سطح المذنب أو ارتداده إلى الفضاء مرة أخرى، لذا فإن أرجل المسبار الثلاث تعمل كممتص للصدمة أثناء الهبوط، كما زودت كل رجل من أرجله بلولب جليدي يثقب في قشرة المذنب لمسافة عشرة سنتيمترات بقوة رد فعل الصدمة، مما يعمل على تثبيت المسبار والحيلولة دون ارتداده إلى الفضاء.

روزيتا .. مهمة مستحيلة

 من ضمن المشكلات التي قلق بشأنها فريق العمل على روزيتا أن سطح المذنب على غير المتوقع بعض الأجزاء منه صلبه، والبعض الأخر على شكل حصى رفيعة جدًا، وأجزاء أخرى على شكل حبيبات غبارية، الأمر الذي قد يجعل اللولب الجليدي غير ذي فائدة فتلك الحصى والغبار ليست مترابطًة مع بعضها بالجاذبية كما على الأرض، وهو شكل من الأسطح لم يختبره علماء الفضاء قط، فقد كانوا يعتقدون قبل عشر سنوات عند تصميم المركبة أن سطح المذنبات يكون جليدي، ومع ذلك أمن مهندسو المسبار هبوطه بواسطة مثبت آخر هو رمحان نحاسيان مربوطان بحبال مع المسبار ينطلقان نحو السطح حين هبوطه، ولكنهما مصممان أيضًا من أجل الجليد، لذا عمد فريق العلماء علي اختبار رمحان مماثلان على تربة حصوية مثل تلك التي على المذنب، ونجحت التجربة في تثبت الرماح في تلك التربة المفككة.

اعلانات جوجل

إن عملية اختيار موقع الهبوط علي سطح المذنب ليس قرارًا سهلًا، بل احتاج الأمر إلى مزيد من الدراسات واختيار عدة مواقع هبوط واختيار الأفضل منها، فسطح المذنب لا توجد به مناطق منبسطة ومسطحة، بل مليء بالجروف والصدوع وسلاسل جبلية وهو يجعل عملية الاختيار غاية في الصعوبة، وبتفحص أماكن الهبوط المختارة والتي وصل عددها إلى خمسة مواقع، وقع الفريق في حيرة بالغة، إما اختيار مواقع هبوط آمنة قليلة التضاريس وغير وعرة وفي نفس الوقت يقل فيها سطوع الشمس مما يسبب نقص في الطاقة للمسبار الذي يعتمد في تشغيله على الطاقة الشمسية، أو اختيار آماكن مضيئة ولكنها تحتوى على تضاريس وعرة وصخور أو المرور عبر الغازات المنبعثة من المذنب، وفي النهاية وافق الفريق على اختيار الموقع الأمن ذا الطاقة المنخفضة، وقد عبر أحد أعضاء الفريق أننا اخترنا الموقع الأقل سوءًا، فليس هناك موقع آمن للهبوط على سطح المذنب.

روزيتا .. مهمة مستحيلة
صورة مأخوذة للموقع المرشح للهبوط عليه

إن عملية إطلاق فيلة نحو مكانه الصحيح ليس بالمهمة السهلة، فمكان روزيتا ليس معلومًا بدقة فوق سطح المذنب بسبب التأخير في إرسال الإشارة إلى الأرض الناتج عن بعد المذنب، لذا فإن أي خطأ ولو بسيط قد يلقي بفيلة في منطقة صخور، أو منطقة جروف وقد ينقلب وتفشل المهمة، وقد قام فريق العمل بتقصي حساباتهم عدة مرات وقاموا بإطلاق فيلة من المركبة روزيتا من على ارتفاع حوالي ثمانية عشر كيلومتر فوق سطح المذنب، ليهبط فيله بسلام على سطح المذنب في 14 نوفمبر عام 2014 في واحدة من أروع عمليات اكتشاف الفضاء الخارجي.

بعد الهبوط اكتشف العلماء أن الرماح النحاسية لم تنطلق كما هو مخطط له ولا اللوالب الجليدية، ويجهل العلماء سبب ذلك، وقد خمنوا أن تربة المذنب كانت انعم بكثير مما تم توقعه الأمر الذي جعل المسبار يرتد مرتين من على السطح وابتعد عن موقع الهبوط الفعلي حوالي كيلو متر، لكنه ومع ذلك استقر المسبار على

سطح المذنب، وبدأ برسم الخرائط الحرارية والخواص المغناطيسية لتربته، كما قام المسبار بتحليل الغازات المتولدة عن المذنب، وأخذ صورة بانورامية للمنطقة التي استقر فيها، وأشارت الصورة إلى أن المسبار استقر علي قدمين فقط والثالثة معلقة قليلًا، والمفاجأة الغير سارة للعلماء أن المسبار استقر تحت ظل صخرة كبيرة تمنع أشعة الشمس من الوصول إليه بشكل كاف، وبذلك اعتمد المسبار في عمله على البطاريات الرئيسية التي وفرت له 60 ساعة من العمل فقط على سطح المذنب، وقد تلقى المسبار آخر تعليماته بالاستدارة 35 درجة ليواجه الشمس حينما تشرق عليه من جديد، ثم أطفأت الأجهزة إجباريًا بسبب انخفاض الطاقة الكهربية ودخل فيلة في سبات عميق يوم 15 نوفمبر عام 2014 على أمل أن يعاد الاتصال بالمركبة مرة أخرى في يونيو من عام 2015.

وقد أشارت القياسات الأولية التي قام بها المسبار أن الطبقات التحت سطحية تتكون من غبار غني بجليد متكلس يصعب تكونه في الطبيعة، مع احتمالية أن تغطيها طبقة من الغبار الرقيق، كما أن الحبيبات الغبارية في المذنب ربما تكون غنية بالكربون وجزيئات متراكبة عضوية معقدة لم يسبق أن رصدت من قبل في أي مذنب ربما تكون قد تكونت في بداية نشأة المذنب، كما أن القياسات المغناطيسية له أثبتت أن المذنب غير ممغنط على عمق أقل من متر، وتبلغ كتلة المذنب حوالي 100 تريليون كيلوجرام، وكثافته 0.47 جم لكل سنتيمتر مكعب أي تقترب من كثافة الفلين والخشب،

في 13 يونيو 2015 استقبلت غرفة التحكم بألمانيا إشارات من المركبة روزيتا تفيد استيقاظ فيلة مجددًا، حيث يأمل العلماء في وكالة الفضاء الأوروبية استكمال المهام التي كلف بها المسبار فيلة ولم يستطيع القيام بها نتيجة انخفاض الطاقة.

روزيتا .. مهمة مستحيلة
مسبار فيلة والأجهزة الموجودة عليه

ومع كل ما مرت به المهمة من عقبات تعتبر هذه المهمة من أنجح عمليات استكشاف الفضاء، وعلامة فارقة على طريق العلم، لقد تعلمنا الكثير والكثير من هذه المهمة، وخاض العلماء ظروفًا جديدة ونجحوا في اجتياز كل العقبات التي كانت في طريقهم، وهم في طريقهم إلى المجهول، وإن لم تقوم المركبة بما كان مأمولًا، فقد تعلم الإنسان دروسًا عميقة في عمليات التحليق في الفضاء، وابتكروا تقنيات طيران جديدة لم يسبق أن جربت من قبل، وستبقى هذه المهمة هي أنجح مهمة بشرية للهبوط على أسطح المذنبات.

مهمات أخرى غير روزيتا

روزيتا .. مهمة مستحيلة
لحظة اصطدام المقذوف التي أطلقته ديب امباكت بالمذنب

خلال العشر سنوات أثناء انطلاق روزيتا نحو هدفها شكلت العديد من مركبات الفضاء لقاءات أخرى مع المذنبات، ففي عام 2006 عادت كبسولة فضائية منفصلة عن مركبة فضائية تسمي ستار داست Star Dust أطلقتها وكالة ناسا لجمع عينات من المذنبات والكويكبات والعودة بها إلى الأرض، وعندما فحص العلماء العينات لاحظوا أنها تضررت أثناء التقاط المركبة للعينات بسبب التصادم القوي مع كبسولة الالتقاط، ومع ذلك احتوت العينة علي أحد الأحماض الأمينية جليسين Glycine وهو أحد لبنات تكوين البروتينات الضروري لمعظم أشكال الحياة، لذا كان إنزال المسبار الفضائي فيلة على سطح المذنب ضروريًا من أجل التأكد من وجود المزيد من تلك المواد الضرورية للحياة.

تعد المحاولة الوحيدة الناجحة للهبوط على أسطح الكويكبات وأخذ عينات منها والعودة سالمة إلي الأرض هي المهمة التي أطلقتها وكالة الفضاء اليابانية JAXA وهو مسبار هيابوسا Hayabusa في مايو 2003 نحو كويكيب أيتوكاوا Itokawa على بعد 300 مليون كيلو متر من الأرض، والتي وصلت إليه في 12 سبتمبر 2005 وظلت عدة شهور تقوم بدراسة ورسم خرائط لسطحه، لتحديد أفضل موقع للهبوط، ونظرًا لجاذبيته الضعيفة كانت مهمة الهبوط عليه مهمة شديدة الصعوبة، الأمر الذي معه لم تفلح محاولة الهبوط سوى لمدة 30 دقيقة فقط في 19 نوفمبر من نفس العام، تلته محاولة أخرى ناجحة يوم 25 نوفمبر ونجحت في التقاط عينات من سطح الكويكب والإقلاع مرة أخري في رحلة العودة إلي الأرض، والتي نجحت في الهبوط بسلام في صحراء استراليا يوم 13 يونيو عام 2010.

في يناير 2005 أطلقت مركبة الفضاء ديب امباكت Deep Impact التابعة لوكالة ناسا الأمريكية في مهمة لاستكشاف المذنب تمبل 1 والتي التقت به في يوليو من نفس العام، حيث أطلقت المركبة مقذوفًا في حجم ثلاجة نحو نواة المذنب بسرعة 37 ألف كيلومتر في الساعة، محققة ارتطامًا عنيفًا استطاعت المركبة الفضائية تصويره، وتلسكوب هابل الفضائي، ونتج عن الارتطام سحابة ضخمة من الصخور والأتربة والغازات، وقد أشارت بعض الأقمار الصناعية لدى تصويرها هذا الحدث انبعاث بعض الأيونات  الناتجة عن تحلل الماء في إشارة واضحة لوجود المياه على سطح المذنب.

أ./ محمد محروس عريف

معلم بوزارة التربية والتعليم المصرية ومؤلف علمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى