اساليب التعلم

هل يجب التركيز على المهارات أم المؤهلات الجامعية؟

أدى تطور عدد من التقنيات المتقدمة مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والأتمتة والروبوتات والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية إلى إحداث ما اصطلح على تسميته الثورة الصناعية الرابعة، وأحدث ذلك تغييرًا جذريًا في معظم القطاعات التجارية والصناعية الرئيسة في العالم من خلال المزج بين العالمين الواقعي والافتراضي.

لكن تأثير تلك الثورة لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية، بل يؤدي إلى اختفاء وظائف تقليدية وتحول أخرى وظهور وظائف جديدة. وتوقع بحثٌ أجرته جامعة أكسفورد أن 47% من الوظائف الحالية ستصبح مؤتمتة خلال العقد أو العقدين المقبلين، ونشرت شركة كوجنيزانت ورقة عمل توقعت فيها ظهور 21 وظيفةً جديدة خلال العقد المقبل ستشكل حجر الزاوية للاقتصادات المستقبلية.

ولهذا سيواصل أرباب العمل البحث عن موظفين يتمتعون بمهارات مميزة مع قدرتهم على العمل عن بعد والتكيف سريعًا مع مختلف المهمات خاصة بعد الدروس التي تعلموها من أزمة كوفيد-19. لكن التحدي القائم أن أنظمة التعليم في معظم دول العالم لا تواكب سريعًا التغيرات التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة، فلا تمد الأجيال الشابة بالمهارات الأساسية التي يحتاجون إليها للمنافسة الفعّالة في سوق العمل المتغير.

اعلانات جوجل

ويبدو هذا واضحًا في نتائج الاستطلاعات التي تجريها مؤسسات الأبحاث، إذ كشف استطلاع عالمي شارك فيه عدد من أرباب العمل أن 60% منهم يرون أن الخريجين الجدد غير مؤهلين بصورةٍ كافية لسوق العمل. وبيّن استطلاع أجرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز بين الرؤساء التنفيذيين، أن نقص المواهب المؤهلة يمثل أحد ثلاثة عقبات رئيسة تعترض نمو الدول العربية. وأظهرت أبحاث شركة ماكينزي أنه بحلول العام 2030، قد يحتاج ما يصل إلى 40% من العاملين في البلدان المتقدمة إلى تغيير مهنتهم أو العودة إلى مقاعد الدراسة لتحسين مجموعات مهاراتهم.

التركيز على المهارات التقليدية لم يعد كافيًا

ازدادت أهمية إتقان الطلاب للعلوم والتقنية والهندسة والرياضيات ومهارات التفكير النقدي بالتزامن مع زيادة دور التقنية والابتكار في العالم. ولهذا يبحث أرباب العمل عن موظفين يتمتعون بمهارات التفاوض وحل المشكلات والإدارة البشرية والتفكير الابتكاري بالإضافة إلى المهارات التقنية وحتى معرفة لغات البرمجة وصولًا إلى معرفة اللغة الإنجليزية بطلاقة.

وبالإضافة إلى كل هذا، فإن القدرة على التعلم المستمر خلال أداء الوظيفة، والاهتمام بمواصلة اتباع البرامج التدريبية تعزز فرص المرشحين في الفوز بوظائف مميزة. ومن يفتقر إلى هذا ربما لن يحصل على أي وظيفة على الإطلاق مستقبلًا لأن الوظائف التكرارية التي لا تحتاج إلى مهارات إبداعية ستوكل إلى الآلات والنظم المؤتمتة.

وأضيف إلى هذا مؤخرًا قدرة الموظف على العمل عن بعد بصورة مستقلة والتعاون مع الفريق أينما كان وكأنه في مكان العمل. وربما يكون للنظم التعليمية التي تعتمد على أسلوب التعليم عن بعد بالإضافة إلى التعليم الصفي والدروس العملية، دور رئيس في تنمية هذه المهارات عند طلاب المستقبل.

اعلانات جوجل

دراسة حالة: تطوير التعليم في دولة الإمارات

تتمتع دولة الإمارات بمجتمع شاب فأعمار 60% من أفراده أقل من 29 عامًا، وأعمار نصفهم تقريبًا أقل من 15 عامًا، ولذا فإن الحاجة ملحة لمعالجة النقص في المهارات الأساسية بين الخريجين.

ويضاف إلى ذلك أن اعتماد التعليم على الناحية النظرية يحرم الطلاب من التدريب العملي ويعوق اكتسابهم مهارات شخصية مهمة، مثل القدرة على مخاطبة الجمهور واتخاذ القرارات.

وأبرز تقرير نشره المجلس الثقافي البريطاني مؤخرًا تحت عنوان: مهارات المستقبل دعم القوى العاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة في المستقبل، ضرورة إصلاح التعليم في البلاد كي تتمكن الدولة من تنفيذ استراتيجيتها الوطنية طويلة المدى، ومواصلة تنمية اقتصادها مستقبلًا.

والواقع أن دولة الإمارات تبذل فعلًا جهودًا حثيثة لتطوير التعليم مدفوعة بسعيها نحو التنوع الاقتصادي والابتعاد عن الاعتماد عن النفط. وحققت فعلًا نجاحات في قطاعات عديدة، مثل الخدمات اللوجستية والتصنيع والبناء والخدمات المالية. وهي تعمل أيضًا إلى التحول نحو اقتصاد يعتمد على المعرفة وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد وتقنية البلوكتشين في إطار جهودها لتنويع الاقتصاد. وذكر موقع لينكدإن أن مهارات استخراج البيانات والتحليل الإحصائي تلعب دورًا حيويًا لضمان مكانة دولة الإمارات بين الدول الأكثر تنافسية في العالم.

وأوصى المجلس الثقافي البريطاني في تقريره باتباع دولة الإمارات نهجًا يرتكز على ستة محاور لتطوير التعليم كي يواكب المستقبل:

اعلانات جوجل
  1. تطوير المهارات القابلة للنقل، والتي تعتمد أساسًا على إصلاح طرائق التدريس، مع التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي.
  2. بناء نظام متكامل يربط الوظائف بالتعليم لضمان فرص التدريب التي تساعد الطلاب على اكتساب خبرة عملية.
  3. التركيز على مهارات الاتصال وتزويد الطلاب بقدرات لغوية جيدة في اللغة الإنجليزية، إلى جانب لغتهم الأم العربية.
  4. تعزيز الابتكار والاستثمار في تقنيات التعليم، لضمان محو الأمية الحاسوبية وتوفير برامج التعلم الشخصية.
  5. تعزيز التعلم مدى الحياة، والاستثمار في الفرص التعليمية خارج نظام التعليم التقليدي.
  6. تعزيز التعليم في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات.

وتتمتع دولة الإمارات بموارد مالية جيدة لتنفيذ هذه التغييرات، وتخصص خمس ميزانيتها الاتحادية للتعليم، لتكون الدولة التي لديها ثاني أعلى معدل للإنفاق على التعليم في العالم. وأحرزت فعلًا تقدمًا كبيرًا في مجال تقنيات التعليم وفق رؤية العام 2021.

ويمثل تعزيز التعاون بين التعليم والقطاع الخاص الخطوة الأهم التي يتوقع أن تتخذها الدولة لتطوير التعليم، خصوصًا أن كثيرًا من الشركات العالمية الرائدة تتخذ دولة الإمارات مركزًا لنشاطاتها الإقليمية، وهي مستعدة وقادرة على دعم هذه الجهود. إذ يحتاج المستقبل إلى مشاركة أكبر للقطاع الخاص في النظام التعليمي العام، ومزيد من الخبرات المهنية والتدريب الداخلي، وتحسين وتسريع الاستفادة من التقنية مع تشكيل شراكات إقليمية في قطاعات معينة بين القطاع الخاص وقطاع التعليم.

المواطن الشامل ورواد الأعمال

يبدو السؤال الذي يطرحه عنوان المقال جدليًا، لكن في عالم المستقبل لا بد للنظم التعليمية من تبني استراتيجية «تنمية المواطن الشامل» الذي يتمتع بأرضية من المعارف والمهارات الشاملة التي تتيح له العمل في طيف واسع من الوظائف مع القدرة على اكتساب الخبرة والمعرفة في مجالات متعددة، فالعمل في المستقبل لن يكون روتينيًا ومتكررًا بل يتطلب الابتكار ويفرض تحديات جديدة قد تكون غير متوقعة.

وحين تسعى النظم التعليمية في العالم العربي إلى تغيير مناهجها وأساليب عملها لتلبية حاجات سوق العمل في المستقبل، لا بد أن تحرص أيضًا على زيادة عنايتها بتنمية المواهب المستقبلية لرواد الأعمال بين طلابها، وإنتاج مزيد من أصحاب الابتكارات، فكثير من الأفكار الجديدة والابتكارات التي تطلقها الشركات الناشئة تشكل محركًا لنمو الاقتصادات في مختلف دول العالم، وقد تنطلق من المستويات المحلية إلى الآفاق العالمية. وعلى الرغم من وجود العديد من البرامج والمبادرات الجيدة على مستوى الدول العربية وفي دولة الإمارات على وجه الخصوص للتشجيع على الابتكار وريادة الأعمال بين الشباب، فإن التأسيس لذلك من خلال تطوير النظم التعليمية لتواكب المستقبل سيأتي بحصاد أفضل.

اعلانات جوجل

المصدر
مرصد المستقبل

الدكتور حازم فلاح سكيك

د. حازم فلاح سكيك استاذ الفيزياء المشارك في قسم الفيزياء في جامعة الازهر – غزة | مؤسس شبكة الفيزياء التعليمية | واكاديمية الفيزياء للتعليم الالكتروني | ومنتدى الفيزياء التعليمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى