تقنيات النانو تفتح آفاقا واعدة في قطاعات الطب والاقتصاد
العالم العربي الأميركي
منير نايفة: تبشر تكنولوجيا النانو بثورة صناعية جديدة
صفات أمين سلامة
لم تعد تقنيات النانو Nanotechnology (التقنيات المتناهية في الصغر)، من باب الخيال العلمي، بل أصبحت حقيقة واقعة تحظى باهتمام العديد من دول العالم المتقدمة، اذ انها تبشر بثورة علمية جديدة في المستقبل القريب في شتى مجالات الحياة. ويعد العالم العربي العالمي منير نايفة، استاذ الفيزياء بجامعة الينوي الأميركية في اربانا ـ شامبين، الذي رشح لجائزة نوبل للفيزياء العام الماضي، أحد رواد علم تقنيات النانو، حيث يقوم حاليا بتأسيس شركة متخصصة بصناعة أجهزة نانوية وتطبيقات متناهية الصغر.
ويرئس نايفة شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج التي أسست عام 1992، وهو عضو بمجلس ادارة المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا بالشارقة التي أسست عام 2000.
تصدى نايفة، مثله مثل بقية العلماء، للبحث عن جواب للسؤال الذي طرحه عام 1959 العالم الأميركي الشهير ريتشارد فاينمان الذي يعد من أعظم علماء الفيزياء في القرن العشرين والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965، وهو: ماذا يمكن أن يحدث لو استطعنا بدلا من تفجير الذرات، التحكم في حركتها وتغيير مواقعها واعادة ترتيبها كما نشاء؟ ولم يتوقع فاينمان العثور على اجابة لهذا السؤال الا في مستقبل بعيد. لكن بعد أقل من عقدين، وفي التسعينيات استطاع نايفة أن يحرك الذرات المنفردة ذرة ذرة، ورسم بواسطة الذرات صورة تمثل القلب والحرف الانجليزي (P) كأصغر حرف في تاريخ الخط وبعرض خمسة بالمليون من المليمتر، والتي تناقلتها وكالات الأنباء واختارتها صورة لغلاف المجلة البريطانية العلمية الشهيرة «نيوساينتست» NewScientist، عدد 7 مارس (آذار) 1992 . ويعد هذا الاكتشاف من الاكتشافات الثورية التي أسست لفرع جديد في الكيمياء يسمى «كيمياء الذرات المنفردة»، والذي يمهد بدوره لطفرة طبية سوف تسهم في علاج العديد من الأمراض التي وقف العلم عاجزا أمامها سنوات طويلة.
بداية، ما هو تعريف علم تقنيات النانو، وما هو حجم الانفاق العالمي على البحوث والاستثمارات في هذا العلم؟
تكنولوجيا النانو هي تكنولوجيا مستحدثة، وكلمة النانو مشتقة من كلمة نانوس الاغريقية وتعني القزم، ونستخدمها اليوم للدلالة على واحد من المليار من المتر، ويتعامل العلماء والمهندسون مع المادة في هذا المقياس على مستوى دقيق جدا أي على مستوى الذرات والجزيئيات النانونية، ليس لبناء أجهزة نانونية فحسب، بل لخلق مواد جديدة ذات ترتيبات وتجمعات وخصائص مبتكرة وغير موجودة طبيعيا، تفتح آفاقا جديدة في العلوم والتكنولوجيا، وتؤدي الى تطبيقات حياتية مختلفة، بالاضافة الى امكانية تحريك الذرات والجزيئيات بدقة لاحداث تفاعلات كيماوية، مما يؤدي الى تصنيع أو تعديل بعض الجزيئيات الاحيائية المهمة. وتتمثل قاعدة التقنيات النانوية العلمية في مسألتين، الأولى بناء المواد بدقة من لبنات صغيرة، والحرص على مرحلة الصغر يؤدي الى مادة خالية من الشوائب ومستوى أعلى جدا من الجودة والتشغيل. والثانية أن خصائص المواد قد تتغير بصورة مدهشة عندما تتجزأ الى قطع أصغر وأصغر، وخصوصا عند الوصول الى مقياس النانو أو أقل، عندها قد تبدأ الحبيبات النانونية اظهار خصائص غير متوقعة ولم تعرف من قبل أى غير موجودة في خصائص المادة الأم. وعلى سبيل المثال ما اكتشفناه في مختبري في جامعة الينوي الأميركية، انه اذا ما أخذنا مادة السيليكون المعتمة جدا جدا والتي هي المكون الرئيسي للأرض والرمال وكل الأجسام في الكون، وعملنا منها حبيبة بقطر واحد نانو، فنصبح نراها تتألق بلون أزرق شديد جدا تحت تأثير الضوء البنفسجي، وباللغة العامية وكأننا حولنا الرمل الى مادة متألقة.
أما عن حجم الانفاق العالمي على البحوث والاستثمارات في تقنيات النانو، فإن هناك لدى الدول المتقدمة اهتماما كبيرا وسباقا محموما في هذا العلم الجديد، ففي عام 2003 وصل حجم الانفاق لـ14دولة في العالم ، 5.5 مليار دولار، وتشير تقارير المحللين أن الولايات المتحدة واليابان تقدم أكثر من نصف الانفاق العالمي في المجال، حيث خصصت الحكومة الأميركية 847 مليون دولار عام 2004، وتنفق وكالة الفضاء «ناسا» أكثر من 40 مليون دولار سنويا علي أبحاثها.
وتتنبأ مؤسسة العلوم القومية الأميركية بأن سوق خدمات تقنيات النانو ومنتجاتها سيصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2015، لأن من يحظى بقيادة تقنيات النانو سيتحكم في الاقتصاد العالمي في القرن الواحد والعشرين.
لم تعد تطبيقات تقنيات النانو خيالا علميا، بل أصبحت حقيقة واقعة، ما هي بعض التطبيقات الحالية والمستقبلية لتكنولوجيا النانو؟
تبشر تقنيات النانو بثورة صناعية جديدة، ويتوقع أن تدخل تطبيقاتها في كل ميادين الحياة مثل الطب والزراعة والغذاء والبيئة والالكترونيات والكومبيوترات، ومن المتوقع أن تؤدي الى تصغير الأجهزة وتقليل سعرها واحتياجاتها من طاقات التشغيل، مما يؤدي الى تحديث مزيد من الأجهزة الالكترونية والألعاب الصغيرة، وهنا تلتقي احتياجات في التطبيقات العسكرية والأمنية والاستكشافية في الفضاء القريب والبعيد.
يرى البعض أن تقنيات النانو قد انتقلت بالفعل من مختبرات الابحاث الى مجال الاقتصاد والتجارة، هل هناك حاليا بالأسواق منتجات تدخل هذه التقنيات في تصنيعها؟
نحن الآن بصدد قفزة عملاقة من مختبرات الأبحاث الى الأسواق ومن ثم الى المنازل، فما زالت أعداد الشركات النانونية في ازدياد متسارع في كل الميادين، فهناك شركات تسوق المواد النانونية مثل حبيبات الذهب أو السيليكون أو الكادميوم كمواد أو تمزجها في مواد أخرى لتحسين فاعلياتها ولو على مستوى قليل في المئة لتكسب التنافس. كما أن هناك شركات الآن تسوق أقمشة فيها مواد نانونية للعزل الحراري أو لمنع التصاق الأوساخ أو الماء، وهناك شركات أخرى تسوق معدات رياضية فيها مواد نانونية، وشركات أخرى تسوق الزجاج المطلي بالمواد النانونية لتمنع تبللها أو التصاق الأوساخ عليها، وشركات تسوق مرشحات للهواء، فيها حبيبات نانونية مطهرة.
يعد طب النانو من الآفاق المستقبلية الواعدة في هذا المجال، ما هي أبرز تطبيقات تقنيات النانو في مجال الطب والعلاج؟
تطبيقات تقنيات النانو في الطب والعلاج كثيرة ومتعددة، ويتركز أهمها في مجال تشخيص الأمراض وايجاد الأدوية المناسبة الفعالة. وفي تشخيص الأمراض هناك تطبيقات مهمة مرتقبة لاستعمال الحبيبات النانونية المضيئة، مثل حبيبات السليكون أو الكادميوم ككاشف ومعلم ضوئي للمواد الحيوية، وما يرجى من هذه الحبيبات هو ايجاد حل للمساوئ والمشاكل التي تعترض الطرق المستعملة حاليا للتشخيص باستخدام الأصبغة العضوية، ويتوقع اذا ما حلت الحبيبات محل الأصبغة أن تعطي حساسية وسلامة وقدرة أعلى في التفريق بين المواد الحيوية، وأيضا سرعة أعلى في اعطاء النتيجة وأخذ القرار، وهو ما سيقلل من الوقت والجهد والتكلفة.
تقوم حاليا بتأسيس شركة تختص بصناعة أجهزة وتطبيقات متناهية الصغر، هل لك أن تحدثنا عنها، وما هو أوجه ومجالات الاستفادة من خدماتها؟
لقد ساعدتني جامعة الينوي في المال والادارة والتخطيط في تأسيس شركة اسمها «شركة النانوسليكون» NanoSi Technologies، من أجل ايصال هذه التقنيات النانونية الى القطاع الصناعي والتجاري في التطبيقات الالكترونية والضوئية والطبية وغيرها.
لقد أحدثنا طريقة لتشتيت رقائق السليكون التي تستخدم في تصنيع الرقائق والأجهزة الحاسوبية والالكترونية والكهربائية وغيرها الى حبيبة بقطر واحد نانو، فنصبح نراها تتألق بلون أزرق شديد جدا تحت تأثير الضوء البنفسجي، أما اذا شتتناها الى قطر 1.7نانو تتألق باللون الأخضر، والى قطر 2.1 نانو تتألق باللون الأصفر، وتتألق باللون الأحمر عندما يكون قطرها 2.9 نانو. وبهذا نصنع مواد سليكونية تشع كطيف قوس قزح أو ما يتكون منه الضوء، مع العلم أن مادة السليكون معتمة جدا جدا. واذا ما اعدنا ترتيب أو زرع هذه الحبيبات على الرقائق فسنحدث ما يسمىSuper Chip ، ستؤدي الى تحديث وتصنيع أجهزة أصغر وأسرع وأقل استهلاكا وخسارة للطاقة، وأقل كلفة للمستهلك. كما أن هذه المادة الحبيبية الجديدة سوف تعد بالكثير في مجال الطب والصحة، اذ أن هذه الحبيبات ستكون كاشفا دقيقا جدا اذا ما ألصقت على الخلايا المصابة بالأمراض الخبيثة وغيرها، وحيث أن هذه الحبيبات غير ذكية، لذا نقوم حاليا بأبحاث لايجاد وسائل وطرق لطليها بمواد حيوية قد تعطيها نوعا من الذكاء حتى تستطيع أن تبحث بنفسها عن المكونات المريضة فتظهرها لنا، وبعد الكشف يمكن أن نتبعها بحبيبات محملة بالدواء أو المادة القاتلة، وقد نتمكن باستخدامها في الكشف والعلاج الوقائي في المراحل الأولية من المرض الخبيث، قبل أن يصبح ورما.
يقول عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكنج «الخيال العلمي اليوم، غالبا ما يصبح حقيقة علمية غدا»، من وجهة نظرك هل الخيال العلمي يلهم العلماء لتحويل أحلامهم الى حقائق؟
نعم للخيال العلمي دور مهم في اثارة وتنشيط خيال العلماء وتهيئة أذهانهم للبحث العلمي والسير في اتجاه معين لتحقيق اكتشافات علمية وتكنولوجية. والخيال العلمي هو القوة المبدعة وراء كل انجاز وابتكار، وبخاصة في العلوم والتكنولوجيا، فعلى سبيل المثال تنبأ كاتب الخيال العلمي الأميركي ايزاك اسيموف Isaac asimov في روايته «الرحلة الخيالية» Fantastic Voyage عام 1966، بموضوع النانوتكنولوجي، وبخاصة طب النانو Nanomedicine كما تساءل عالم الفيزياء الأميركي ريتشارد فاينمان Richard Feynman في محاضرته القيمة عام 1959، «ماذا سيحدث اذا أصبح بمقدور العلماء ترتيب الذرات واحدة واحدة بالطريقة التي يريدونها»، وبالفعل انتقل مفهومه العلمي من الخيال الى الواقع، فقد قمت مع زملائي في مختبر أوك ريدج القومي الأميركي Oak Ridge National Laboratory عام 1976، بالكشف عن الذرات المنفردة ومعالجتها في الحالة الذرية مقارنة بالسطوح، أي اننا استطعنا ترجمة الخيال العلمي الذي حلم به فاينمان الى واقع ملموس من خلال رصد ذرة منفردة من بين عشرة بلايين مليار ذرة والتعرف على هويتها، وكان ذلك يحدث لأول مرة في تاريخ العلم.
سيرة حياة د. نايفة
ولد في فلسطين ودرس الثانوية في المدرسة الهاشمية في البيرة، والتحق بالجامعة الأميركية في بيروت للتخصص في الهندسة بمنحة من وكالة الانماء الأميركية، ثم تحول لدراسة الفيزياء وحصل على منحة من جامعة ستانفورد الأميركية لدراسة الفيزياء الذرية والليزر. وبعد التخرج ألتحق بمعهد أوك ريدج القومي، حيث استحدث مع زملائه طريقة ليزرية لقياس التجمعات الذرية الغازية لأعلى المستويات من الدقة والتحكم وهو قياس ذرات منفردة، ثم انتقل الى جامعة ييل الأمريكية، ومنها الى جامعة الينوي حيث استحدثت طريقة جديدة للتحكم وترتيب الذرات والجزيئيات على السطوح وهو ما سمي «الكتابة بالذرات». وعندما التحمت العلوم والهندسة والطب في بعضها البعض في تقنيات النانو، حيث يصبح العالم مهندسا والمهندس عالما وتقل الفوارق بين الفيزياء والكيمياء والميكانيك والأحياء، كانت الفرصة الذهبية لتجميع كل اهتماماته في مجال واحد، فأبحاثه الآن تضم بالاضافة الى المبادئ العلمية للمواد، أيضا هندسة وبناء وفهم كيفية تشغيل أجهزة المستقبل النانونية، وقد انخرط ثلاثة من اولاده في دراسات تقنيات النانو.